الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} وهذا دور من أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة، ينهض به شعيب في قومه أهل مدين.. ومع الدعوة إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى، هي قضية الأمانة والعدالة في التعامل بين الناس، وهي وثيقة الصلة بالعقيدة في الله، والدينونة له وحده، واتباع شرعه وأمره. وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة، ولم يدركوا العلاقة بين المعاملات المالية والصلاة المعبرة عن الدينونة لله! وتجري القصة على نسق قصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وإن كانت أقرب في نهايتها وأسلوب عرضها. والتعبير عن خاتمها إلى قصة صالح، حتى لتشترك معها في نوع العذاب وفي العبارة عن هذا العذاب. {وإلى مدين أخاهم شعيباً. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...}. إنها الدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى. وقاعدة الحياة الأولى. وقاعدة الشريعة الأولى. وقاعدة المعاملات الأولى... القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة.. {ولا تنقصوا المكيال والميزان، إني أراكم بخير، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين. وما أنا عليكم بحفيظ}.. والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة بعد قضية العقيدة والدينونة أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة.. فقد كان أهل مدين وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات. وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآيبة بين شمال الجزيرة وجنوبها. ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائرة التي وصفها الله في هذه السورة. ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول. فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس. وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه، فتستند إلى أصل ثابت، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء.. إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة.. هذه هي نظرة الإسلام. وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم! وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة؛ كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها. فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة.. إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية، حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله؛ وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله وانتظار ثوابه وتوقي عقابه، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضعية من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغواً في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية! {ولا تنقصوا المكيال والميزان. إني أراكم بخير}.. ققد رزقكم الله رزقاً حسناً، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان.. بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة، أو غضب في الأخذ والعطاء. {و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط}.. إما في الآخرة عند الله. وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغضب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة. وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك. ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط}.. وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة. وللعبارات ظل في الحس. وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص، فهو أكثر سماحة ووفاء. {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}.. وهذه أعم من المكيلات والموزونات. فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع. تقويمها كيلاً أو وزناً أو سعراً أو تقديراً. وتقويمها مادياً او معنوياً. وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات. لأن كلمة «شيء» تطلق أحياناً ويراد بها غير المحسوسات. وبخس الناس أشياءهم فوق أنه ظلم يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد، أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير.. وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر، ولا تبقى على شيء صالح في الحياة. {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.. والعثو هو الإفساد، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد، قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير: {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين}.. فما عند الله أبقى وأفضل.. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له بلا شريك فهو يذكرهم بها هنا، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات. وهي فرع عن ذلك الإيمان. {بقية الله خير لكم. . إن كنتم مؤمنين}.. ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه، ويبين لهم أنه لا يملك لهم شيئاً، كما أنه ليس موكلاً بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلاً كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولاً عنهم إن هم ضلوا، إنما عليه البلاغ وقد أداه: {وما أنا عليكم بحفيظ}.. ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، وبثقل التبعة، ويقفهم وجهاً لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ. ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد، وسوء الاستغلال: {قالوا. يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد!}.. وهو رد واضح التهكم، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعة. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه. {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟}.. فهم لا يدركون أولا يريدون أن يدركوا أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله، ونبذ ما يعبدون من دونه هم وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة. وقبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معاً بالمعاملات.. قبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكاً من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يقولون: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله.. وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف فلقد قامت أزمة في «الكنيست» مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها من غير اليهود أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده مهما تعرضت للخسارة فأين من يدعون أنفسهم «مسلمين!» من هذا الاستمساك بالدين؟!! إن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون! من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية. وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله «المتحضرون»؟!. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟}.. وهم يتساءلون ثانياً. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد... فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الأقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية النظرية الأخلاقية مثلاً ويعدونها تخليطاً من أيام زمان! فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق.. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!!! وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان! ويسخر أهل مدين من شعيب كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد فيقولون: {إنك لأنت الحليم الرشيد!}.. وهم يعنون عكس معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين!!! ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم.. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات؛ فهو لا يبغي كسباً شخصياً من وراء دعوته لهم؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون: {قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقاً حسناً؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب}. {يا قوم...}.. في تودد وتقرب، وتذكير بالأواصر القريبة. {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي؟}.. أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في نفسي، أصدر واثقاً مستيقناً. {ورزقني منه رزقاً حسناً}.. ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها. {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}.. فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعاً به! {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.. الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه؛ وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص. فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة؛ ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متضامناً متعاوناً لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام! {وما توفيقي إلا بالله}.. فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي. {عليه توكلت}.. عليه وحده لا أعتمد على غيره. {وإليه أنيب}.. إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي. ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط: فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير: {ويا قوم لا يجرمنَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح. وما قوم لوط منكم ببعيد}.. لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام. ثم يفتح لهم وهم في مواجهة العذاب والهلاك باب المغفرة والتوبة، ويطمعهم في رحمة الله والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إن ربي رحيم ودود}.. وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين. ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب: {قالوا: يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز}. فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول}.. وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة: {وإنا لنراك فينا ضعيفاً}.. فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها. {ولولا رهطك لرجمناك}.. ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب. {وما أنت علينا بعزيز}.. لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة! وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية. وعندئذ تأخذ شعيباً الغيرة على جلال ربه ووقاره؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه؛ ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى في هذا الوجود، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعلمون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة، ويخلي بينهم وبين الله، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون: {قال: يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً؟ إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب}.. {أرهطي أعز عليكم من الله؟}.. أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد الله.. أهؤلاء أعز عليكم من الله؟.. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله؟ {واتخذتموه وراءكم ظهرياً}.. وهي صورة حسية للترك والإعراض، تزيد في شناعة فعلتهم، وهم يتركون الله ويعرضون عنه، وهم من خلقه، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير. {إن ربي بما تعملون محيط}.. والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه. إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله سبحانه ووقاره. الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه.. إن شعيباً لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه الذين افترق طريقهم عن طريقه وهذا هو الإيمان في حقيقته.. أن المؤمن لا يعتز إلا بربه؛ ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يُخشى ربه! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه، إنما هي لربه ودينه. وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته! ومن هذه الغضبة لله. والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه؛ وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم بعد أن كان واحداً منهم ويفترق الطريقان فلا يلتقيان: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم}.. وامضوا في طريقكم وخطتكم، فقد نفضت يديّ منكم. {إني عامل}.. على طريقتي ومنهجي. {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب}.. أنا أم أنتم؟ {وارتقبوا إني معكم رقيب}.. للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم.. وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير. كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق.. ويسدل الستار هنا. على هذه الكلمة الأخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة، ليرفع هناك على مصرع القوم، وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم، أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح، فكان مصيرهم كمصيرهم، خلت منهم الدور، كأن لم يكن لهم فيها دور، وكأن لم يعمروها حيناً من الدهر. مضوا مثلهم مشيعين باللعنة، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب: {ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها. ألا بعداً لمدين، كما بعدت ثمود...}. وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)} وخاتمة ذلك القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون، لتسجيل نهاية فرعون وملئه، ونهاية قومه الذين ائتمروا بأمره. وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة التي لم تذكر هنا، كما تضم مشهداً من مشاهد القيامة الحية المتحركة. وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام. مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء.. ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزوداً بقوة من الله وسلطان، إلى فرعون ذي السلطان وكبراء قومه. {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وملئه}.. ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها، فإذا هم يتبعون أمر فرعون، ويعصون أمر الله. على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط: {فاتبعوا أمر فرعون. وما أمر فرعون برشيد}... ولما كانوا تبعاً لفرعون في هذا الأمر، يمشون خلفه، ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر، ودون أن يكون لهم رأي، مستهينين بأنفسهم، متخلين عن تكريم الله لهم بالإرادة والعقل وحرية الاتجاه واختيار الطريق.. لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعاً: {يقدم قومه يوم القيامة}.. وبينما نحن نسمع حكاية عن الماضي ووعداً عن المستقبل، إذا المشهد ينقلب، وإذا المستقبل ماض قد وقع، وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى: {فأوردهم النار} !! أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم. ألم يكونوا قطيعاً يسير بدون تفكير؟ ألم يتنازلوا عن أخص خصائص الآدمية وهي حرية الإرادة والاختيار؟ فأوردهم النار. ويا بئساه من ورد لا يروي غلة، ولا يشفي صدى، إنما يشوي البطون والقلوب: {وبئس الورد المورود!}. وإذا ذلك كله. قيادة فرعون لهم، وإيرادهم موردهم.. إذا ذلك كله حكاية تروى، ويُعلق عليها: {وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة}.. ويُسخر منها ويُتهكم عليها: {بئس الرفد المرفود}.. فهذه النار هي الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه!!! ألم يعد السحرة عطاء جزيلاً ورفداً مرفوداً.. فها هو ذا رفده لمن اتبعه.. النار.. وبئس الورد المورود. وبئس الرفد المرفود! وذلك من بدائع التعبير والتصوير في هذا الكتاب العجيب..
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} هذه خاتمة السورة. تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة، مبنية على ما سبق في سياق السورة. من المقدمة ومن القصص. وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة الاتصال بما سبق من سياق السورة، متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك. والتعقيب الأول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك- وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة. إن أخذه أليم شديد}.. والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحياً بالخوف من عذاب الآخرة الذي يعرض في مشهد شاخص من مشاهد يوم القيامة: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة. ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك- إن ربك فعال لما يريد. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض- إلا ما شاء ربك- عطاء غير مجذوذ}.. يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد صلى الله عليه وسلم شأنهم شأن من قبلهم في الحالين. وإذا كان عذاب الاستئصال لا يقع عليهم في الأرض، فذلك لكلمة سبقت من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلافهم فيما جاءهم من كتاب. ولكن هؤلاء وهؤلاء سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد. فاستقم أيها الرسول على طريقتك انت ومن تاب معك، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وأشركوا، وأقم الصلاة واصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص. ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلاًّ لمّا ليوفينهم ربك أعمالهم، إنه بما يعملون خبير. فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.. ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إلا قليل من الذين ينهون عن الفساد في الأرض. أما الكثرة فكانت ماضية فيما هي فيه، فاستحقت الهلاك. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض! إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.. وكشف عن سنة الله في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدراً من الاختيار: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك. ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}. وفي النهاية يسجل السياق غرضاً من أغراض هذا القصص هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر الرسول أن يلقي للمشركين كلمته الأخيرة، ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب الله. وأن يعبد الله ويتوكل عليه، ويدع له أخذ الناس بما يعملون: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق، وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون}.. {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك. منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم؛ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.. ومصارع القوم معروضة، ومشاهدهم تزحم النفس والخيال؛ منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر، ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفت به وبداره الأرض، ومنهم من يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار. وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للأنظار.. في هذا الموضع وقد بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد.. هنا يأتي هذا التعقيب: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد}.. {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك}.. فما كان لك به من علم، إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور. وذلك بعض أغراض القصص في القرآن. {منها قائم}.. لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران، كبقايا عاد في الأحقاف وبقايا ثمود في الحجر. ومنها {حصيد} كالزرع المحصود. اجتث من فوق الأرض وتعرى وجهها منه، كما حل بقوم نوح أو قوم لوط. وما الأقوام؟ وما العمران؟.. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات. غرس منها يزكو وغرس منها خبيث! غرس منها ينمو وغرس منها يموت! {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}. فهم قد عطلوا مداركهم، وتولوا عن الهدى، وكذبوا بالآيات، واستهزأوا بالوعيد، فصاروا إلى ما صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين. {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب}.. وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص. فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه؛ وتكرر الإنذار مع كل رسول؛ وقيل لهم: إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصم من الله.. فها هي ذي العاقبة تصدق النذر. فلا تغني عنهم آلهتهم شيئاً، ولا تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك، بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودماراً. (ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد) ذلك أنهم اعتمدوا عليهم، فزادهم استهتاراً وتكذيباً. فزادهم الله نكالاً وتدميراً. فهذا معنى {ما زادوهم} فهم لا يملكون لهم ضراً كما أنهم لا يملكون لهم نفعاً. ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد.. {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة}... كذلك الذي قصصناه عليك، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة.. ظالمة: مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية، وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح. وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون. {إن أخذه أليم شديد}.. بعد الإمهال والمتاع والابتلاء، وبعد الإعذار بالرسل والبينات، وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون. ويتبين أن دعاة المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في الظلال.. ثم.. بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الظلال؛ وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها. وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله، وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها. وفق سنته التي لا تتخلف على مدار الزمان. ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة، يراها من يخافون عذاب الآخرة، أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة، فيخافوا هذا العذاب.. وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة. ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود. وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}. {أن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة}.. ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة، تذكر بهذا اليوم وتخيف.. وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب.. والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهماً. ثم يأخذ في وصف ذلك اليوم.. {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}.. وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعاً، على غير إرادة منهم، إنما هو سوق الجميع سوقاً إلى ذلك المعرض المشهود، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون.. {يوم يأت لا تَكلم نفس إلا بإذنه}.. فالصمت الهائل يغشى الجميع، والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه. والكلام بإذن لا يجرؤ أحد على طلبه، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته بإذنه.. ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع: {فمنهم شقي وسعيد}.. ومن خلال التعبير نشهد: {الذين شقوا} نشهدهم في النار مكروبي الأنفاس {لهم فيها زفير وشهيق} من الحر والكتمة والضيق. ونشهد {الذين سعدوا} نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ولا ممنوع. هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم {ما دامت السماوات والأرض}. وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار. وللتعبيرات ظلال. وظل هذا التعبير هنا هو المقصود. وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين. وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية. فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها. إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله: {إن ربك فعال لما يريد}.. وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعدما يوهم التقييد. بعد هذا الاستطراد إلى المصير في الآخرة، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا، والمشابه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك، أو هنا ثم هناك.. يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه في مكة تسرية وتثبيتاً؛ وإلى المكذبين من قومه بياناً وتحذيراً. فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون- شأنهم شأن أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه. فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى بعد اختلافهم في دينهم لأمر قد شاءه الله في إنظارهم. ولكن قوم موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون، بعد الأجل، وفي الموعد المحدود. ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق. فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل. وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص. ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم. وإنهم لفي شك منه مريب. وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم.. إنه بما يعملون خبير}.. لا يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلاء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير لقومه. وهذا الأسلوب أفعل في النفس أحياناً، لأنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها الله لرسوله، وليست جدالاً مع أحد، ولا خطاباً للمتلبسين بها، إهمالاً لهم وقلة انشغال بهم! وعندئذٍ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطاباً مباشراً.. {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل}.. ومصيرهم إذن كمصيرهم.. العذاب.. ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشياً مع الأسلوب: {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص}.. ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم. وقد رأينا منه نماذج ومشاهد! وقد لا يصيبهم عذاب الاستئصال في الدنيا كما لم يصب قوم موسى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه}.. وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم، ولكن كلمة سبقت من الله أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم}.. ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة، ولم يحل عذاب الاستئصال بهم، لأن لهم كتاباً، والذين لهم كتاب من اتباع الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة، لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره كالجيل الذي أنزل فيه. والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل، فإما أن يؤمن بها وإما أن لا يؤمن فيأخذه العذاب.. والتوراة والإنجيل كتابان متكاملان يظلان معروضين للأجيال حتى يجيء الكتاب الأخير، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعاً يدعى إليه الناس جميعاً، ويحاسب على أساسه الناس جميعاً، بما فيهم أهل التوراة وأهل الإنجيل. {وإنهم}.. أي قوم موسى.. {لفي شك منه مريب}.. من كتاب موسى، لأنه لم يكتب إلا بعد أجيال، وتفرقت فيه الروايات واضطربت، فلا يقين فيه لمتبعيه. وإذا كان العذاب قد أجل.. فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها. سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع: {وإن كلاً لما ليوفينهم ربك أعمالهم. إنه بما يعملون خبير} وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل. وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين.. ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين!... إنها فترة تهتز فيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت. وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه! كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون! وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة، وكيف يكشف لها معالم الطريق! ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي وعيده. وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم كما أمروا لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق. ثم يتزودون بزاد الطريق، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد. {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا. إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.. هذا الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه: {فاستقم كما أمرت}.. أحس عليه الصلاة والسلام برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيراً إليه: «شيبتني هود...» فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة. وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر. والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير. وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء.. {إنه بما تعملون بصير}.. والبصر من البصيرة مناسب في هذا الموضع، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير.. فاستقم أيها الرسول كما أمرت. ومن تاب معك... {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبّدونهم لغير الله من العبيد.. لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير. {فتمسكم النار}.. جزاء هذا الانحراف. {وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.. والاستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين.. والله سبحانه يرشد رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل}.. ولقد علم الله أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود! والآية هنا تذكر طرفي النهار وهما أوله وآخرة، وزلفاً من الليل أي قريباً من الليل. وهذه تشمل أوقات الصلاة المفروضة دون تحديد عددها. والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك. والنص يعقب على الأمر بإقامة الصلاة أي أدائها كاملة مستوفاه بأن الحسنات يذهبن السيئات. وهو نص عام يشمل كل حسنة، والصلاة من أعظم الحسنات، فهي داخلة فيه بالأولوية. لا أن الصلاة هي الحسنة التي تذهب السيئة بهذا التحديد كما ذهب بعض المفسرين {ذلك ذكرى للذاكرين}.. فالصلاة ذكر في أساسها ومن ثم ناسبها هذا التعقيب.. والاستقامة في حاجة إلى الصبر. كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر.. ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو: {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.. والاستقامة إحسان. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان. والصبر على كيد التكذيب إحسان... والله لا يضيع أجر المحسنين... ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون. فيشير من طرف خفي إلى أنه لو كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله، فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بهم، فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد، إنما كان في هذه القرى قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة، فأنجاهم الله. وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين لهم، فأهلك القرى بأهلها الظالمين: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض! إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.. وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال.. والاختلال! فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب.. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره.. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع.. والتعقيب الأخير عن اختلاف البشر إلى الهدى وإلى الضلال، وسنة الله المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا أو ذاك: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. وتمت كلمة ربك: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.. لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد.. نسخاً مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض. وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض. ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته. فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار. شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة. فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين. وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة إلا الذين أدركتهم رحمة الله الذين اهتدوا إلى الحق والحق لا يتعدد فاتفقوا عليه. وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال. ومن المقابل الذي ذكره النص: {وتمت كلمة ربك: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.. يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتلئ بهم كما تمتلئ جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة! والخاتمة الأخيرة. خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين. فأما الذين لا يؤمنون فليلق إليهم كلمته الأخيرة، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة، وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في غيب الله. ثم ليعبد الله ويتوكل عليه، ويدع القوم لما يعملون.. {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون}.. ويا لله للرسول صلى الله عليه وسلم لقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}.. {وجاءك في هذه الحق}.. أي في هذه السورة.. الحق من أمر الدعوة، ومن قصص الرسل، ومن سنن الله، ومن تصديق البشرى والوعيد. {وموعظة وذكرى للمؤمنين}.. تعظهم بما سلف في القرون، وتذكرهم بسنن الله وأوامره ونواهيه. فأما الذين لا يؤمنون بعد ذلك فلا موعظة لهم ولا ذكرى. وإنما الكلمة الفاصلة، والمفاصلة الحاسمة: {وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون}.. كما قال أخ لك ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلاقونه.. وما ينتظرونه غيب من غيب الله: {ولله غيب السماوات والأرض}.. والأمر إليه. أمرك وأمر المؤمنين، وأمر الذين لا يؤمنون، وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما سيكون. {فاعبده}.. فهو الجدير وحده بالعبادة والدينونة. {وتوكل عليه}.. فهو الولي وحده والنصير. وهو العليم بما تعملون من خير وشر. ولن يضيع جزاء أحد: {وما ربك بغافل عما تعملون}.. وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في النهاية. بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. والرجعة إليه في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطوار القرون.. وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال النظرة والفكرة والاتجاه في هذا القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.. وبعد. فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها بل المتتبع للقرآن المكي كله يجد أن هناك خطاً أصيلاً ثابتاً عريضاً عميقاً، هو الذي ترتكز عليه؛ وهو المحور الذي تدور حوله؛ وإليه ترجع سائر خطوطها، وإليه تشد جيمع خيوطها كذلك.. إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله.. وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلاً.. وسنحتاج في التعقيب الإجمالي على هذه السورة أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا المحور كما يتجلى في سياق السورة وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئاً ما. ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به، ربطاً لأجزاء هذا التعقيب الأخير: إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى التاريخ البشري. أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية.. إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. هي التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره.. وتقرير أن هذا هو الدين كله.. وإقامة الوعد والوعيد، والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة.. كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها.. فيبقى هنا أن نجلي أولاً طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة، وقيمة هذه الطريقة: إن حقيقة توحيد العبادة لله ترد في صيغتين هكذا: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير...} وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي.. فهل مدلولهما واحد؟. إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه.. ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله.. والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه.. ولكن الأول «منطوق» والآخر «مفهوم».. ولقد اقتضت حكمة الله في بيان هذه الحقيقة الكبيرة عدم الاكتفاء بالمفهوم، في النهي عن عبادة غير الله. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل. وإن كان مفهوماً ومتضمناً في الأمر الأول! إن هذا يعطينا إيحاء عميقاً بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة، ووزنها في ميزان الله سبحانه، بحيث تستحق ألاّ توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه؛ وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم! كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها. . عبادة الله. وعدم عبادة سواه.. أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء. وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه. وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده.. ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله، ولا يتركون عبادته، ولكنهم مع هذا يعبدون معه غيره؛ فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون! ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معاً؛ بحيث يؤكد أحدهما الآخر، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة.. وقد تكرر مثل هذا في التعبير في مواضع شتى؛ هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها: {ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير: ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 1 2] {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه: إني لكم نذير مبين: ألا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} [هود: 25 26] {وإلى عاد أخاهم هوداً، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إن أنتم إلا مفترون} [هود: 50] {وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين. إنما هو إله واحد. فإياي فارهبون} [النحل: 51] {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً. ولكن كان حنيفاً مسلماً. وما كان من المشركين} [آل عمران: 67] {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً. وما أنا من المشركين} [الأنعام: 67] وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، له دلالته من غير شك. سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة، وإنما ينص نصاً منطوقاً على كل جانب فيها. أو في دلالة هذه الطريقة على علم الله سبحانه بطبيعة الكائن الإنساني، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو، الذي يتجلى فيه القصد والعمد.. ولله الحكمة البالغة.. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. ثم نقف أمام مدلول مصطلح «العبادة» الوارد في السورة وفي القرآن كله لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة. لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه في هذه السورة ما هو مدلول مصطلح «العبادة» الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية؛ كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسول الكرام، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام.. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات: إن إطلاق مصطلح «العبادات» على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاق مصطلح: «المعاملات» على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل.. إن هذا جاء متأخراً عن عصر نزول القرآن الكريم؛ ولم يكن هذا التقسيم معروفاً في العهد الأول. ولقد كتبنا من قبل في كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئاً عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات: «إن تقسيم النشاط الإنساني إلى» عبادات «و» معاملات «مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة» الفقه «. ومع أنه كان المقصود به في أول الأمر مجرد التقسيم» الفني «الذي هو طابع التاليف العلمي، إلا أنه مع الأسف أنشأ فيما بعد آثاراً سيئة في التصور، تبعها بعد فترة آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة» العبادة «إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله» فقه العبادات «. وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي. » ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى «العبادة» أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولاً وأخيراً. « » وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج.. «ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى» العبادة «في حياة الإنسان.. والنشاط الإنساني لا يكون متصفاً بهذا الوصف، محققاً لهذه الغاية التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني؛ فيتم بذلك إفراد الله سبحانه بالألوهية؛ والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله!» «وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم» العبادات «وخصوها بهذه الصفة على غير مفهوم التصور الإسلامي حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها. وهي انها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم «المعاملات».. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطراً من منهج «العبادة» التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله سبحانه بالألوهية. «إن ذلك التقسيم مع مرور الزمن جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا» مسلمين «إذا هم أدوا نشاط» العبادات «وفق أحكام الإسلام بينما يزاولون كل نشاط» المعاملات «وفق منهج آخر.. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر.. ! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله!» «وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين على هذا النحو فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين. » وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه؛ ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني «. فالآن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية.. بل أنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو» الدينونة «لله وحده في أمره كله، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله. ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم» العبادة «نصاً بأنها» الاتباع «وليست هي الشعائر التعبدية، وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى، واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً:» بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم «. إنما أطلقت لفظة» العبادة «على» الشعائر التعبدية «باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون. صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالإصالة!.. ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء» إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء. «إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة.. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء».. وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بياناً في هذا التعقيب الختامي الأخير. فالآن نبين إجمالاً قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء: * ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد على هذا النحو الشامل في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي، وحاجته الفطرية، وتركيبه الإنساني.. أثرها في تصوره.. وأثر هذا التصور في كيانه: «إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل بكل معاني الشمول يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، جهة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء، جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها، جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء. » كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام. «عندئذ تتجمع هذه الكينونة.. تتجمع شعوراً وسلوكاً، وتصوراً واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج. وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقاً؛ ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق؛ ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق!» «والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها. لأنها تكون حينئذ في حالة» الوحدة «التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق سبحانه والوحدة هي حقيقة هذا الكون على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء على تنوع الأنواع والأجناس والوحدة هي حقيقة الإنسان على تنوع الأفراد والاستعدادات والوحدة هي غاية الوجود الإنساني وهي العبادة على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود. «وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق» الحقيقة «في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية؛ وفي أوج تناسقها كذلك مع» حقيقة «هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه؛ ومع» حقيقة «كل شيء في هذا الوجود، مما تتأثر به وتؤثر فيه.. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار. » وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدواراً عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كيان التاريخ الإنساني.. «وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى وهي لا بد كائنة بإذن الله سيصنع الله بها الكثير، مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشئ قوة لا تقاوم؛ لأنها من صميم قوة هذا الكون؛ وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضاً. »... إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني. وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله؛ وحين يصبح كل نشاط فيها صغر أم كبر جزءاً من هذه العبادة؛ أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه. وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها. مقام تلقي الوحي من الله. ومقام الإسراء أيضاً: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1]. {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله. لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1]. * وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية: إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره؛ وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة. .. سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية؛ وبعضها مثل بعض؛ تخضع الرقاب لغير الله؛ بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله. والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله؛ في كل جانب من جوانب الحياة! إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم} [محمد: 12]. ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة. ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد.. يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها.. ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء!.. إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية؛ ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالاً لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟.. كل الذين يسمونهم متحضرين.. ! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات.. الخ.. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها؛ أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس في هذه الجاهلية «الحضارية!» لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين!.. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟! وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده؛ وحين يدينون لغيره من العبيد. . وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر! وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة.. سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في حاكمية الاعتقاد والتصور.. إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي؛ والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها؛ وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها؛ وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال وأحيانا من الأولاد! تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف؛ ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن.. ومن.. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء! وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ؛ وعلى تصفيف الشعر وكيه؛ وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء!... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.. إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال. ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء! وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية.. وما من أضحية يقدمها عابد الله لله، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافاً للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض.. وتقام أصنام من «الوطن» ومن «القوم» ومن «الجنس» ومن «الطبقة» ومن «الإنتاج»... ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب.. وتدق عليها الطبول؛ وتنصب لها الرايات؛ ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد.. وإلا فالتردد هو الخيانة، وهو العار.. وحتى حين يتعارض العِرض. مع متطلبات هذه الأصنام، فإن العرض هو الذي يضحى؛ ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام! إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله؛ ليعبد الله وحده في الأرض؛ وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان.. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض.. إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار! وأخيراً فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه؛ ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة. كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها. وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء.. وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله، ليقيم من نفسه طاغوتاً يعبّد الناس لشخصه دون الله.. احتاج هذا الطاغوت كي يعبد (أي يطاع ويتبع) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات؛ أولا: لحماية شخصه. وثانياً: لتأليه ذاته. واحتاج إلى حواشٍ وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده، وترتل ذكره، وتنفخ في صورته «العبدية» الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان «الألوهية» العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها. وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها، وإقامة طقوس العبادة لها... ! وهو جهد ناصب لا يفرغ أبداً. لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل. وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد! وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح أحياناً وأعراض! لو أنفق بعضها في عمارة الأرض، والإنتاج المثمر، لترقية الحياة البشرية وإغنائها، لعاد على البشرية بالخير الوفير.. ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أحياناً والأعراض لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده؛ وإنما يدينون للطواغيت من دونه. ومن هذه اللحظة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونه لله وحده؛ وعبادة غيره من دونه.. وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض، والقيم والأخلاق. وفوق الذل القهر والدنس والعار! وليس هذا في نظام أرضي دون نظام، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات. ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة. لقد هربت أوربا من الله في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف وثارت على الله سبحانه في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ومصالحهم كذلك في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتجة... إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة.. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان «الرأسمالية» ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات، وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبوديه ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحيفة! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، في معزل عن الله سبحانه!!! ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها «رأس المال» و«الطبقة» إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة «الرأسماليين» الدينونة لطبقة «الصعاليك»! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين! وفي كل حالة، وفي كل وضع، وفي كل نظام، دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال. إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله.. والعبودية لله وحده تطلق الناس أحراراً كراماً شرفاء أعلياء.. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية. من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله سبحانه وفي كتبه.. وهذه السورة نموذج من تلك العناية.. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله، في كل زمان وفي كل مكان؛ وتتعلق بالجاهليات كلها.. جاهليات ما قبل التاريخ، وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد. والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها وهذه السورة نموذج منها أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام؛ وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم. فالقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق.. ثم هي بعد بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام؛ وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها الأحكام. وكذلك فإن قضية «العبادة» ليست قضية شعائر؛ وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة.. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين.. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات. والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة؛ ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية: لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم عليه السلام أبي البشر الأول، ثم على يدي نوح عليه السلام أبي البشر الثاني.. ثم بعد ذلك على يدي كل رسول.. وأن الإسلام يعني توحيد الألوهيه من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع: أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجيه والتشريع. ثم بينا كذلك أن الجاهلية سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع أو هما معاً كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل عليهم صلوات الله وسلامه وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم؛ بالدينونة لغير الله سبحانه سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب، أو روح أو أرواح شتى؛ أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر: كاهن أم ساحر أم حاكم.. فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية. ومن هذا التتابع التاريخي الذي يقصه الله سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن؛ وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه.. خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل؛ ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأساً في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلاً في الديانة المصرية القديمة؛ فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد ولو على سبيل الاحتمال وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف عليهم السلام وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 37 40] وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجاً منحرفاً منذ البدء، لأنه يتعمد الوصول سلفاً إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقة. لأنه لم يستطيع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الاساس، حتى صارت من أصول المنهج! أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع.. على أنه أياً كان المنهج وأياَ كانت النتائج التي يصل إليها؛ فإن تقريراته مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم.. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول الله سبحانه في مسألة من المسائل؛ فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج. ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية.. قاطعة، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة. وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول الله سبحانه وقول علماء الأديان. أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول الله في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنياً ولا مفهوماً! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير.. إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري؛ والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية؛ والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية؛ فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث الله للناس رسولاً يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير الله سبحانه من الأرباب المتفرقة.. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة لله وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده. إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك.. إن البشرية اليوم بجملتها تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول محمد صلى الله عليه وسلم وهي تتمثل في صور شتى: بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه، وإنكار لوجوده.. فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين. وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك. وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة. وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية؛ مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين؛ ومع استسلامهم ودينونتهم لغير الله من العبيد! وكلها جاهلية. وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين.. إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح؛ تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية؛ ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة. إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرة، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وتقديم الشعائر لله وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده.. وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام؛ ولا تحتسب للناس صفة المسلمين؛ ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعاً، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعاً.. إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى الله مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية.. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية؛ وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي وهي تحسبه مجتمعاً مسلماً وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلاً، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيدة جداً.. ونقف الوقفة الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم. واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية؛ كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة: لقد أرسل كل رسول إلى قومه. وعند بدء الدعوة كان الرسول واحداً من قومه هؤلاء. يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته؛ ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه الله إليه؛ والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه. هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء.. ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام! لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم.. عبدوا الله وحده كما طلب إليهم، وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه.. وبذلك صاروا مسلمين.. صاروا «أمة مسلمة».. ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه. كفروا بما جاءهم به؛ وظلوا في دينونتهم لغير الله من خلقه؛ وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام.. ولذلك صاروا «أمة مشركة».. لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين: أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة. مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة. إلا أن آصرة الجنس والأرومة، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة.. لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه.. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونه.. وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان، ولا تتعايشان! ذلك أنه بعد بروز هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين؛ فاصل الرسولُ والأمة المسلمة التي معه قومهم على أساس العقيدة والمنهج والدينونة. فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم.. لقد افترق المنهجان، فاختلفت الجنسيتان. وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان! وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل الله بينهما؛ فأهلك الأمة المشركة، ونجى الأمة المسلمة.. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة.. والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه: أن الله سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم؛ وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك؛ وعالنوهم بأنهم يدينون لله وحده، ولا يدينون لأربابهم الزائفة؛ ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة؛ ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها الله. سواء تعلقت بالاعتقاد، أو بالشعائر، أو بالشرائع. إن يد الله سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون.. وما دام، المسلمون لم يفاصلوا قومهم، ولم يتبرأوا منهم، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم، ومنهجهم عن منهجهم، وطريقهم عن طريقهم، لم تتدخل يد الله سبحانه للفصل بينهم وبينهم، ولتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين.. وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها؛ وأن ترتب حركتها على أساسها: إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام؛ والدينونة لله وحده بلا شريك؛ ونبذ الدينونة لأحد من خلقه في صورة من صور الدينونة ثم ينقسم القوم الواحد قسمين، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون لله وحده صفاً- أو أمة- ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق الله صفاً آخر.. ثم يفاصل المؤمنون المشركين.. ثم يحق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين.. كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري. ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية. ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ الحظة الأولى. ولقد يبطئ الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد؛ وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر.. ولكن وعد الله بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال. فهو لا شك آت. ولن يخلف الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري. ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة. فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان.. وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة؛ وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل عليهم صلوات الله وسلامه يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية. فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك. مستيقنة أن سنة الله جارية مجراها، وأن العاقبة للتقوى. وأخيراً، فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين، كما يتمثل في القرآن الكريم.. إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية.. لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة. والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق؛ ويريهم معالمه في مراحله جميعاً؛ ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق؛ وقد بات لاحباً موصولاً بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري؛ وبات بهذا الركب الكريم مأنوساً مألوفاً لا موحشاً ولا مخوفاً!.. إنهم زُمرة من موكب موصول في طريق معروف؛ وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية؛ ولا يمضون هكذا جزافاً يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم؛ ويحرك هذا الوصف حركة مرسومة مأمونة.. وهكذا يمكن اليوم وغداً أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم.. إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه. تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها؛ وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات؛ وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق. والقرآن بهذه الصورة لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة. ولكنه ينتفض حياً يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه. وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه! إن هؤلاء جميعاً لن يدركوا من هذا القرآن شيئاً يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو؛ إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه. إن الذين يواجهون الطاغية بالإسلام الحنيف؛ والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد؛ والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. إن هؤلاء وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن؛ لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه: ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة؛ ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع.. وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام. أأقول: جزاء؟! كلا. والله. إنه لفضل من الله كبير.. {قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} والحمد لله العظيم رب الفضل العظيم..
|